لوباتشينو والثقة المعدومة
في صبيحة يومٍ شديد البرودة من سنة 2009 ,
يهاتفني طبيب الطوارئ في مستشفى سينت بول في مدينة فانكوفر الجميلة العاصمةالثانية لمقاطعة بريتش كولومبيا الكندية بعد جزيرة فيكتوريا .
هناك هديّة تنتظرك في الطوارئ ، علمت مِن حينها أن حالةً صعبة في انتظاري .
عند نزولي للطوارئ تفاجأت على غير العادة بشابّين طويلين يقفان مع أخيهما الثالث وهو ممدّدُ على السرير لا يستطيع الحراك !
شلل رباعي في شابٍ لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره !
كيف حدث هذا الأمر ؟
ومنذ متى هو هكذا لا يتحرّك ؟
رأيت شاباً مبتسِماً راضياً وعليه ألقُ الثقة والاعتداد بالنفس .
هذان أخواي وهما لا يفهمان ما يجري معي من حالةٍ صحية مع العلم أنّي أستخدم بعض الأدوية التي جلبتها حديثاً من دولة جورجيا والتي جعلتني في حالٍ أفضل مما سبق .
المعذرة ! ولماذا لا تتابع مع أحد الأطباء المتخصصين من هنا في فانكوفر وفيها كما تعلم الخبراء والأطباء ذووا المهارة والعلم .
ردّ قائلاً : لو تعلم ما أعلم ما قبلت أن تكون ضمن هذه الطواقم الطبية التي تعلّمت الكثير من العلم الزائف الذي يجرّبونه على الحيوانات !
علمت حينها أني أتعامل مع حالةٍ خاصّة وفريدة وربّما يصعب عليّ ترميم ما تسلّل فيه من افتقارٍ للثقة بالنظام الصحي .
فلسان حالِ مريضنا
"قَلّ الثقاتُ فلا أدري بمن أثِق..لم يبقَ في الناس إلا الزورُ والملقُ "
هل أتيت إلى هنا برغبتك طواعيّةً أم تظنّ أنّك أُجبرت على المجيء ؟
لا بأس أيها الطبيب أريد فقط أن أبيّن لأخويّ الذين ما فتئا ينتقداني ويلوماني على التقصير في المتابعة الطبية أن الطب "الكيميائي " الحديث ما هو إلا خدعة كبيرة لا تنطلي على مثلي ممّن أدرك عبودية الطب والأطباء للشركات الرأسمالية الغربية الجشعة والتي آخر اهتماماتها أن يكون الناس في صحة جيّدة !
في حديثي معه أدركت أن " الأنا " متضخّمة لدى هذا المريض وأن الطرق التقليدية للحديث والاقناع ربّما لا تجدي مع أمثاله .
أدخلت المريض في غرفةِ الطوارئ وبعد أخذ الوظائف الحيوية والاطمئنان عليه بشكل عام بادرته بالسؤال عن حالته وهل تم تشخيصها سابقاً .
قال : قبل عشرة سنوات شعرت بآلام متكرّرة في الرقبة وأسفل الظهر ثم ازدادت الآلام وشملت بعض مفاصل الأكتاف والفخذين ، زرت متخصصاً بعد إلحاح والديّ وعلى مضض عملوا لي بعض الأشعّات والرّنين وبعض الفحوصات على القلب وفحوصات الدم وبعد ظهور فحص المناعة HLA-B27
تم تشخيصي بحالة ، ثم سكت
ما تظن أن يكون التشخيص يا دكتور ؟
مباشرةً ومن غير تردّد قلت له : " ANKYLOSING SPONDILITIS "
" التهاب الفقار المُقسّط "
قال : نجحت في الاختبار
ابتسمت له
ناقشت حينها الحالة مع الطبيب الاستشاري المناوب في تخصص الروماتيزم وطلب مني إدخال المريض للنظر في الخيارات الطبية المتاحة .
في اليوم التالي ، سألته هل تعاني من أي أنواعٍ من الحساسية ؟ قال : لا
قلت له أحضرت لك بعض المكسّرات والتمر عربون محبّة وصداقة ، مع الرغبة في إذابة ذلك الجبل الجليدي الذي وضعه بينه وبين الطب الحديث ، فابتسم ثم أخذنا نتحدّث .
قلت له : أعجبني كثيراً اسمك الأخير " لوباتشينو " وكذلك هدوءك ولطافتك
فقال : هل تعرف من أي بلدٍ وعِرقيةٍ أنحدر
فقلت لا :
قال : هاجر جدّي من بلدةٍ يقال لها " سورنتو " المطلّة على خليج نابولي في إيطاليا وعمل في مشاريع ،
السكك الحديد والقطارات .
فقال: ممازحاً هل تعرف نابولي ؟
قلت له : كيف لا أعرفها ومارادوما لعب فيها ومثّلها خير تمثيل .
فقال واضحٌ أنك شرق أوسطي لأن الكثير من الكنديين لم يسمعوا بها .
ثم بادرني بالسؤال: هل تعرف معنى " لوباتشينو " قلت له علّمني فقال : " لوبا " تعني في الإيطالية الذئب
و " تشينو " تعني الصغير
أمَا تعرف ما معنى " كاباتشينو " قلت له أتوقع أن " كابا تعني الكوب أو الكأس وتشينو كما قلت الصغير فهي تعني القهوة في الكوب الصغير فأعجبته بذلك
فقال : أنا ابن أسرة الذئب الصغير ، لكنني ذئبٌ كبير ،
قلت له نسمّي أمثالك في ديارنا " ذيبان " فعجبه اللقب وبدأ يمازحني كلما مررت صوب سريره قائلاً ذيبان ذيبان فإذا التفت إليه أطلق ابتسامةً جميلة .
دخلنا أنا والاستشاري عليه د.جون كِلسال وهو من خيرة المتخصصين في أمراض الروماتيزم وجلسنا معه جلسة مطولة تخللها أسئلة عن تاريخه وتاريخ أسرته المرضي وما عمله من فحوصاتٍ سابقة وأشعّات وما هو المتوقع أن يُعمل له في دخوله هذا .
بادره الدكتور كلسال قائلاً لقد تأخرت كثيراً في أخذ الأدوية المناسبة لمثل حالتك وها أنت ترى المضاعفات الحاصلة لك من تصلّب وتكلّس لمفاصل الرقبة والظهر والأكتاف والوركين
، وربّما حتى الرئتين وبعض صمّامات القلب .
.
أشعر بالألم عليك وأنا أراك ممدّداً على سريرك كأنك في حالةٍ من الشلل الرباعي
بينما كثير من مرضانا ممّن فيهم هذا المرض المناعي الذين يصيب المفاصل والفقرات وبعد أخذهم الأدوية المناعية والكورتيزون والمسكّنات تتحسن حالاتهم وتحافظ مفاصلهم على ليونتها وصحّتها وينعكس ذلك على حركتهم ونشاطهم ووظائفهم .
هل تستطيع القيام بعملك ؟
كنت أعمل عامل بناء ولكن بسبب تطوّر الحالة عندي اضطررت لترك العمل .
لكني لم أتخيّل في يومٍ من الأيام أن أقبل بأخذ هذه الكيماويات التي ذكرتها وخصوصاً أدوية الكورتيزون والأدوية المهبّطة للمناعة !
نعم ، ربما تهبّط بعض هذا الأدوية مناعتك لتتم السيطرة على المضادات الذاتية التي ينتجها جسدك وتمنع استفحال المرض عندك وفي المقابل إذا حدث لك طارئ من التهاباتٍ أو غيرها نستطيع تقليل الجرعة أو تبديلها ، وإعطاءك بعض المضادات الحيوية ، لكن أن تجعل نفسك فريسة لهذا المرض المناعي من غير حماية وهذا متحقّق لا محالة ، في مقابل حدوث طارئ محتمل وربّما لا يحدث ، أظنّ أن هذه المفارقة تدعو لإعادة التأمل واتخاذ القرار الصحيح ، ولايزال هناك متّسع من الوقت لتأخذ القرار المناسب ، فأن تصِل أخيراًخيرٌ من التخبّط في مكانك .
أعِدك يا دكتور أني سأبذل مجهود مضاعف من السؤال والبحث والتمحيص لكن أتمنى بعيداً عن تدخّلات أهلي وإخواني وليكون القرار قراري .
بعد يومين من الفحوصات والأشعّات وأخذ رأي أطباء العظام وأطباء التأهيل والنقاشات بيننا وبين المريض والخدمة الاجتماعية والطب المهني والرياضي حتى التشابلين ( وهو الدعم الديني الكنسي ) الذي يتم استشارتهم أحيانا لأسباب ليس هذا مجال سردها ، فأتيت نحو الذئب الصغير بعد الظهر لعلّ وعسى أن يكون اتخذ قراراً بأخذ الأدوية والالتزام بخطةٍ علاجية تتيح له اكتساب الحركة والتعافي ، فوجدته يتألّم ألماً متوسّطاً إلى شديد في الجهة اليمنى من بطنه ، ففحصته وقلت له منذ متى هذا الألم ؟
قال : هذا الألم يزورني من حينٍ لآخر على مدى السنتين الماضيتين وآخذ له بعض الأعشاب وبعض المقوّيات والأقراص الطبيعية .
فقلت له أخشى أن يكون الألم نابعاً من كليتك اليمنى والحالب حسب ما أرى خصوصاً أنه ينزل على أسفل البطن ناحية العانة ، وأرى أن أعمل أشعة للبطن للتأكد من ذلك .
فقال لا بأس ، بعد سويعة أو أقل تكلمني الممرضة وتقول تم أخذ الأشعة ، والذئب الصغير يسأل بإلحاحٍ عن نتيجتها .
أتيته بعد دخولي على نظام المستشفى ورؤيتي لأشعّته التي أظهرت حصوةً كبيرةً جداً في حوض الكلية اليمنى مخترقةً الحالب فصوّرتها وذهبت إليه لأريه النتيجة ، فّلما علم بها أدرك أن طبّه الطبيعي لم يكن حلاً لآلامه المزمنة ولكن ربّما مهدئاً أو إرضاءً لدوافعه النفسية التي ترفض الطب الحديث .
هنا وجدت الفرصة مواتية لإظهار ما للطب الحديث من أثرٍ على صحة الإنسان ، فبعثت لأحد الزملاء المتخصصين في المسالك البولية ليرى الحالة ويأتي بالحلول ، فكان الرأي الطبي هو التدخّل الجراحي عن طريق أنبوبٍ خارجي يصل عن طريق الجلد إلى حوض الكلية اليمنى واستخراج هذا الحُصيّات وفي نفس الوقت عمل دعامة للحالب الأيمن .
بعد يومين زال الألم نهائياً وارتاح الذئب الصغير ويبدو أن النظرة القاصرة للطب الحديث أخذت بالغروب .
جلسنا جلسةً أخرى معه بعدما هدأت أموره ، واسترجع رشده ، فقال أريد أن أغيّر واقعي المرضي فما الحلول ؟
فوضعنا الخطة العلاجية التي تتضمّن تدخّلاتٍ جراحية عن طريق أطباء العظام والتي من ضمنها وضع دعامات عظميّة لعظمي الفخذين عند التقائهما بالحوض ودعامات في الأكتاف ، مع العلاج الطبيعي في مركز جي إف سترونق ، وأخذ الدواء المناعي .
انتهت مسيرتي مع الذئب الصغير وانتقلت بعد انتهاء الشهر إلى وحدةٍ أخرى في الطب الباطني .
وبعد مضي ثمانية أشهرٍ وأنا في عيادة الغدد وإذا بشابٍ يدخل علي يمشي على رجليه بمساعدةِ عكّازتين ليأخذ دواء هشاشة العظام وإذا به ذلك الذئب الصغير ، فاحتضنني بقوّة وأحسست بالمشاعر التي يحملها في قلبه وذرفت عيناه وقلت له لوباتشينو أنت عزيزٌ على قلبي فقال : أنت بحق وحقيقة لوباغراندي ( يقصد الذئب الكبير )
من هذه القصة ندرك أن كثير من مشاكل الناس في أفكارهم وسلوكياتهم تكون نابعة عن تصوّراتٍ خاطئة وربّما قلّةِ علمٍ أو جهلٍ مركّب ، ودورنا كأطباء سبر أغوار هؤلاء المرضى واستنطاقِ أفكارهم ومعالجة قلقِهم ومراعاةِ أمزِجتهم ، ولنا في كورونا ولقاحاته خير شاهدٍ ودليل .
، في النهاية من أصعب الأمور التي يجب أن نضعها نصب أعيننا كأطبّاء هو استعادة ثقة المرضى بالطبيب أو النظام الصحي بعد تشويهها الناتج عن أفكارٍ خاطئة أو غيرها من الأسباب ، واتخاذ المنهج الصحيح في ذلك بعيداً عن العاطفة والتنظير .
د.عزيز الظفيري
أبو معاذ
( تم كتابة هذا المقال في الطائرة من ميونخ إلى الكويت)
حُرّر بتاريخ ١٦ فبراير ٢٠٢٥
.
تعليقات
إرسال تعليق