صِراع البقاء وولادةُ الحياة

قام من عندنا عجِلاً ، توجّه مُسرعاً لينقذ أخاهُ الذي سقط على الأرض بعد تلقّيه اتصالاً من أخيه الآخر ، وكلاهما يسكنان بعيداً عنه .
لا أعلم ما كان يدور في خلدِه ، لكنّني أعلم أنه يقف بجانب البعيدين ويساند الضعفاء والمساكين ، ويرشد أبناءنا الطلبة والفائقين ، كونُهُ معلّماً وحاذقاً ومُربّياً ، أما الآن فالمحتاجُ أخوه ، مُقلتُهُ الأخرى ومِحجَرُ المرءِ ذووه !

" أخاكَ أخاكَ إنّ منْ لا أخاً لهُ
... كساعٍ إلى الهيجا بغيرِ سلاحِ
وإنّ ابنَ عمّ المرءِ فاعلم جناحُهُ
... وهل ينهضُ البازي بغيرِ جناحِ "
أخذ أخاه للمستشفى وتم عمل جبيرةٍ له ، ثم أخذه للبيت ، وما إن وضعه في السرير إلا وتلامس أُذناهُ وقع حشرجةٍ في صدر أخيه الآخر وسُعالٍ يسمعُهُ الجيران .
يتّصل عليّ ، بعدها بيومٍ ، لا يستطيع أخي التنفّس ، فأدخلناه المستشفى وكان عنده نقصٌ في الأكسجين وجلس قُرابة الأسبوعين مصارعاً المرض حتى نجّاهُ الله .
بعدها بيومين أصيبُ صاحبُنا وسُعالُ الكوفيد لا تخطئهُ أذنٌ من خلفِ سمّاعة الهاتف ، وقال أخشى على زوجتي الحامل ، ذات الثلاثة وثلاثين ربيعاً ، فعزل نفسه عنها .
بعدها بيومين أخذت الحرارة ترتفع في جسد زوجتهِ والكحّة تتشبّث بأنفاسها ، فتوجّها للمستشفى وتم حجز زوجته لمراقبتها وجنينِها الذي كان في شهرهِ الثامن بين أحشائها .
ضاق النّفس وأصبحت تحتضرُ فاضطررنا لجعلها تحت جهاز التنفّس الصناعي وتوليدِها بشكلٍ طارئ للمحافظة على حياة جنينها ، فولدت طِفلةً خديجةً أسماها أبوها حور ، وهي في جمالها كالحور حفظها الله ورعاها .
صرخات حور وبكاؤها بعيداً عن صدرِ أمّها وحنانها ، يثير في النفس ألماً وحسرةً أنْ كيف ستعيشُ هذه الفتاة وربّما لا ترى أمّها البتّةَ ، وكانت مبعثاً لنا لعمل المستحيل لإنقاذ أمّها .
كانت الأم في غيبوبةٍ تامّة ولم تُفِق بعد ولادتها فقد كان الفايروس ينهش جسدها ويقضي على أنفاسها .

وصل جهاز التنفس الصناعي لأعلى ضخٍ له مئةً بالمئة خلال أسبوعين ، بينما قراءة الأكسجين في دمها لا تكاد تبقيها حيّةً ، انفجرت الرئة اليسرى ، وتسلّل الهواء بين جدار الصدر والرئة وأصبح ضغط دمها في الحضيض ، في نظري كانت هذه علامة للموت الذي يُحدِق بها وربّما خلال دقائق تكون في عداد الأموات .
من فضل الله ، فالتقنية الطبّية الحديثة متوفّرة والأبطال جاهزون ، فتم وضعها على جهاز الرئة الصناعية ( ECMO) , وتم عمل بربيش في الصدر لسحب الهواء وتنقيته .
أخذت تصارع الموت دقيقة بدقيقة ولحظةً بلحظةٍ ، ولولا لطف الله اللطيف الخبير لكان أبناؤها أيتاماً .
بعدها بيومٍ ، هبوط شديد في الضغط وضربات قلبها تتجاوز حاجز الصّوت ، ولم تظهر الأشعة المقطعية تجلّطاً رئوياً حينها ، لكنّ دمها ومستوى الهيموغلوبين في الحضيض .
تعال يا أبا الحسن ، وقّع لدخولها العمليات فهي تنزف في جدار البطن وداخله . تم إعطاؤها قرابة العشرين كيساً للدم ، كانت خيوط الموت تغرز مخالبها في روحها لتنتزعها لكنّ أمر الله غالبٌ وكأنّ صوتاً خفياً ينطلقُ منها " ربّي إنّي مسّني الضّر وأنت أرحم الراحمين" ، استقّر شأنها أياماً معدوداتٍ لتبدأ حلقة صراع جديد مع أنواع مختلفةٍ من ميكروبات بكتيرية مُقاومة للمضادات ومن هبوطٍ في الضغط إلى تذبذُبٍ في القلب إلى انقطاعٍ في الأنفاس ، لكن دعواتٍ في ظهرِ الغيب تغيّر قدرها وتُزيل غمّها .

زاد انتفاخ رِجلِها بشكلٍ ملحوظ وإذ بجلطةٍ وريديّة كبيرة يتسلّل جزءٌ منها للشريان الرئوي يضعف ضغطها ويكاد يسلب روحها لكن لُطف الله يسبِق ورحمتُه تتسلّل إلى صدرها لتجعل تلك الجلطة برداً وسلاماً ، وحالُها يتقلّب بين نزفٍ وتجلّط ، معادلةٌ يصعب الاتزان بينهما .
طافت أيام وليالٍ وكلّ اتصالٍ من المستشفى كأنه بريدُ الموت يسعى ليخبرني بقُربِ أجلِها ، لكنّ ربي لطيفٌ بها خبيرٌ بأحوال صغارها ، وكأن لسان حالها يقول :
" ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي زغبٍ .. حُمرُ الحواصِلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسِيهُم في قعرِ مُظلمةٍ ..فالْطُف بها ليزول الهمّ والخطرُ"
بِتصرّف .
تحسّنت بعد صراع طويل ، ففتحنا لها فتحةً بالرقبة ليسهُل تنفّسها ، ورفعنا عنها جهاز دعم الحياة ، وبدأت تفتح عينيها ، فتتهاطلُ أدمُعها كالمطر عندما رأت ابنتها حور ، لكنها لا تستطيع الكلام ولا التعبير .
وضعت ابنتها على صدرها فتسابقت دموعنا مع دموعها وأحسسنا بانفراجةٍ عظيمة وفرحٍ غريب .
بعد أسبوعين أغلقنا فتحة الرقبة و خيّطنا جرح بطنها الذي كان مفتوحاً طوال هذه المدة ، ومن العجب العجاب أن أسلمت الممرّضة الخاصة التي كانت تراعيها ، وكنت أقول : سبحان ربي ! كيف لميّتٍ أن يهب الحياة للأحياء؟!
خرجت أم الحسن بعد شهرين ونصف من الإصابة بهذا الفايروس الخبيث ، لنسطّر للعالم روايةً عن حالها مع هذا المرض وكيف يستلب الأرواح في أي محطّةٍ يقف عليها قِطارُهُ ، لكنّ الله العظيم الكريم الرحيم هو من بيدِهِ مقاليد السماوات والأرض وهو الذي يحيي ويُميت .
بادروا لأخذ اللقاح ، فوالله إنّ قصصاً كثيرة ومآسٍ يندى لها الجبين لا نستطيع أن نرويها لكثرتها ، لا نريدكم أنتم وأحبابكم أن تصارعوها .
حفظ الله الجميع من كل مكروه .

د.عزيز الظفيري

تعليقات


  1. كتبت هنا نيابةً عن كل مريض
    او ولي امر مريض لأقول لك
    ان الله جل و علا رزقك
    ثلاث خصال
    الهمة العاليه
    و العزيمة الثابته
    و التلطف بأحوال المرضى
    فوالله هذا اعظم العلم واجل المعرفه
    مآثرك قائمةٌ على سوقها
    لا تحتاج لمثلي ان يعددها
    وما جئت هنا لأسردها
    لاننا جميعنا نعيشها ضلاً وافرا
    وحاضراً حياً نحياه جميعاً
    ثم أطلت سحابة عطفك
    و سحابة كرمك وايثارك
    ففاضت من غير رعد
    و سقت من غير بخس
    وجرى نهرها العذب
    فلم يبقى وادي الاّ رواه
    و لا ذو عطشن الا سقاه
    كتبت هنا نيابةً عن كل مريض
    او ولي امر مريض
    لأقول لك...
    ان لك في قلوبنا محبه
    نسال الله ان يجعلها خالصه لوجهه
    ولك في اعيننا مقاماً ومكاناً واجلالاً
    لم تزده حوادث الايام و الدهر
    الا رسوخا و ثباتا وعلوا
    ايها الطبيب المبارك
    اتيت هنا لأقول للعالم جميعاً
    اولئك اهلي فجئني بمثلهم
    اذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ

    ردحذف
    الردود
    1. الله يكرمك يا بو مزعل ، ويرفع قدرك فوق ما هو عالي ويزيدك من البركة والفضل والخير والإحسان ويحفظك وأهلك وأحبابك 💐💐

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لوباتشينو والثقة المعدومة

بحّارة على نهر الفولغا

روعة اللحظة