بحّارة على نهر الفولغا

لكل إنسان لوحة حياة يرسمها الآخرون له ، تبدأ قسَماتُها قبل ميلادِه وربّما تنتهي تفاصيلها بوفاتِه أو تستمر طالما ذِكرُه باقٍ على البسيطة .
هذه اللوحة أوراقُها الأحداث ، وألوانُها المشاعر ، وزُيوتُها التصوّرات ،وريشتُها الأفكار وأبعادُها المواقفُ والإيحاءات والصُّدَف والذّكريات .
هي لوحةٌ تزدادُ قيمتُها وشرفُها إذا كان من يحيط بك ويصنع أحداث حياتك كلّ مميّزٍ وفريدٍ ونفيس وتقل قيمتها إذا أُحطت في بيئةٍ لا تدرك معدنك وجوهرك وتفاصيلك الجميلة .
ما كان اللوفر لِيفخر بالموناليزا لو لم تكن بهذا السّحر والعراقة ولَما تجشّم عناء الطريق والوقوف في الطوابير أهل الذّوق والأناقة، وما كان العشاء الأخير بهذا الغموض والرّمزيّة ، ما لم تحُط رِحال دافنشي وريشة عبقريّته في صُنع هذا الإبداع البشري المنقطع النظير ، وما كان "البحّارة على نهر الفولغا" بهذه الواقعية الفريدة لو لم يجسّد ريبين ذلك الإبداع ، والذي لو كان بيننا اليوم ما وسِعهُ إلا أن يرسم الدّب يلتهم أسماك السلمون في نهر دنيبر وربما بقيّة قِطَعِ اللحم الأوروبية المُقدّدة عندما تغرق الجيوكندا في قلب نهر الدّون .
لوحةُ حياتك لا تقل جمالاً عن تلك النّفائس والفرائد ، إذا كان راسمو تفاصيلها على شاكلة أولئك العظماء والمبدعين .
البساطة والسهولة في حديثِك وهيئتِك واختياراتك تجعلك أكثر سعادةً وأقرب إلى قلوب الناس وأعظم تأثيراً على مشاعرِهم وانطباعاتهم وتوجّهاتهم ، فينعكس ذلك على ما يرسمونه في لوحتِك ويُصيغونه عن تفاصيلك ، انظُر إلى " آكِلوا البطاط " بثيابهم الرّيفيّة الرّثّة على ضوء مصابيحهم الخافتة ، فَثَمّ صدقٌ ودِفئٌ ينبعانِ من بساطتهم بعيداً عن التصنّع والكِبر .
تلك الطفلة التي تبسّمت لك عند إعطائها قِطعة الحلوى ، وذلك الشيخ الكبير الذي ناولتَهُ عصاهُ ليتّكِئ عليها ، وهذا الذي باح بِسِرّه لك ليخفّف عن نفسِهِ ما يحملُه بين جنباتِهِ ، وقائد الطائرة الذي وجّه كلمته قُبيل الهبوط شاكراً لكم لاختياركم تلك الخطوط ، وذلك المُمرّض الذي ضمّد جراحك بعد إصابتك ، كل أولئك أو بعضُهُم وُجِدوا في حياتك لتكتمل لوحتُك ويزداد وهجُها وبريقُها ، لذلك كُن على يقينٍ أنّ مُعظم تفاصيل حياتك بخيرِها وشرّها ، وحُلوِها ومُرّها ، وأحداثها صغيرها وكبيرها ستجد موطئ قدم في لوحتك التي يرسمها الآخرون عنك . والجدير بالذّكر أنه ربّما تجد الناس اختلفوا في رسم لوحاتٍ للبعض فمنهم من يجعلهم في أعلى السلّم ومنهم من لا يقيم لهم شأناً ، ومنهم ما بين ذاك وذيّاك ، وربّما يعود ذلك الأمر لمغالطةٍ سببها سوء التقدير أو زيف التأثير ، أو الانبهار الذي يُنسي حقيقة الأشياء ، وكما قيل "وعينُ الرّضا عن كلّ عيبٍ كليلةٌ ... ولكنّ عين السّخطِ تُبدي المساويا "

وكما للأفراد لوحاتٌ تُصاغُ وتُرسم لهم ، فكذلك للمجتمعات والشعوب والدّول لوحاتٌ ، يتم رسمها لهم ، وتبقى في تصوّرات الأمم الأخرى عنهم . انظر إلى شعوب المايا حيث اللوحة النمطيّة التي رُسِمت لهم كبنّائين ماهرين وتميّزهم بتشييد الأهرام والمعابد والتماثيل وفنون النحت ، وانظر كذلك للشعوب الإسكندنافية التي تفرّدت بإرثِ مقاتلي الفايكنج الأشدّاء ، واللغات النورديّة الصعبة ، والعُزلة بين البلطيق وبحر الشمال ، ثمّ أشِح بنظرك نحو الشرق الأفريقي حيث شعوب الماساي بلباسهم المزركشة ، وطبائعهم الغريبة كشِربِ دماء البقر ، وقتلهم الأُسُود ، وحجّهم إلى جبل الإله لينغاي ، وتركهم موتاهم بلا دفنٍ لتأكلهم الحيوانات المفترسة !! . تلك الممارسات هي لمحةٌ ممّا اختصّت به تلك الشعوب ، ولوحةٌ مما رسمها الآخرون عنهم قال عمرو بن العاص عن الرّوم : " إنّهم لأحلمُ الناس عند فتنةٍ ، وأسرعُهم إفاقةً بعد مُصيبة ، وأوشكُهم كرّةً بعد فرّةٍ ، وخيرُهم لِمسكينٍ ويتيمٍ وضعيف ، وخامسةٌ حسنةٌ جميلة : وأمنعُهم مِن ظُلم الملوك " رواه مُسلِم .

مِن ذلك ، يجدر بنا كمجتمعاتٍ مُسلمة أن نرسم صورةً نمطيّة عنّا قبل أن يرسمها الآخرون لنا ، قِوامُها الرّحمة والصّدق وحُسن التعامل وإعطاء كل ذي حقٍ حقّه ، وامتلاك أُسس القوّة والمنعة كي يكون الآخرون على حذرٍ منا ويكون رُكنُنا مُهاباً وحوضُنا مهيباً ، أمّا إذا ارتسمت في عيون الآخرين عنا تلك الأوصاف التي ذكرها النبي الأكرم " (إِذا تبايعتُم بالعِينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حتّى تَرْجِعُوا إِلى دِينِكُم) فإننا بلاشكٍ على هامش التاريخ تشكّل انطباعاتِنا وتوجّهاتِنا وخياراتِنا ريشةُ الأعداء ومهندِسو سياساتهم ومفكّروهم .

التاريخ وما أدراك ما التاريخ ؟ فهو الذي لايزال يغدق علينا بما توارثته الشعوب من طبائع وتوجّهات ليضعها في لوحاتٍ أنثربلوجيّة تميّزهم عن غيرهم ، وهو المُنصف لأولئك العظماء الذين صنعوا الأمجاد وحفظوا البلاد بإبقاءِ لوحاتهم ناصعةً لا تغيب شمسها ولا تندرس آثارها ، وهو كذلك الشاهد على عُتاةِ المجرمين بإبقاء لوحاتهم ملطّخةً ، مُشوّهةً منبوذة ، حتى لو أحاطوا أنفسهم بمِلئ الأرض من أمثال غوبلز أو هامان ، فاختر لنفسِك في أيّ ضِفّةٍ مِن التاريخ تكون لوحتُك .


أبو معاذ

د.عزيز رخيّص الظفيري

azizfromkuwait@hotmail.com




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لوباتشينو والثقة المعدومة

روعة اللحظة